الأساس النظري الذي تقوم عليه مجموعة فصحاء (أحد مشاريع سلسبيل الضاد) يقوم على نقاط كثيرة نذكر منها أن:
هناك نظريتان في تعليم اللغات في العالم ، و في بلد ما يتم تبني إحداهما و تجاهل النظرية الأخرى كما لو كانت غير موجودة. ففي البلدان التي تشجع الهجرة إليها مثل كندا والولايات المتحدة وأستراليا، يُرَوَّجُ لتعليم الطفل لغات متعددة منذ البداية انطلاقا من قدرة الطفل على اكتساب لغات متعددة . هذا يلبي حاجة بلدان الهجرة في إدماج المهاجرين لغويا وثقافيا وصهرهم في ثقافتها من جهة ، و يلبي طموحات المهاجرين الذين يرغبون في تعليم لغاتهم الأم لأولادهم إلى جانب لغة بلد المهجر من جهة أخرى .
والحقيقة أن تربويين آخرين يناقضون بشدة هذه النظرية و يصرون على تعليم الطفل حتى سن العاشرة أو الحادية عشرة لغة واحدة ، كما يحصل في ألمانيا و إنكلترا، ليستقيم عليها لسانه وتنطبع بها طريقة تفكيره وشخصيته. فاللغة ليست لسانا فقط ، إنما هي طريقة تفكير وبذلك يضمنون تفوقا للطفل في بناء الشخصية والتفكير و يعلمونه فيما بعد سن الحادية عشرة لغات أخرى للتواصل مع العالم، بينما يستمرون في تدريس المواد التعليمية والتواصل مع المجتمع باللغة الوطنية الوحيدة.
ونحن في مجموعة فصحاء نستفيد من كلا النظريتين ، حيث ندرك الإمكانات المفتوحة التي حباها الله تعالى للأطفال في قدرتهم على تعلم لغات عديدة (سبع لغات) قبل سن السادسة من خلال جهاز اكتساب اللغة الذي أودعه الله فيهم منذ الولادة (نعوم تشومسكي 1959) والذي يبدأ بالضمور بدءًا من سن السادسة و يتوقف عن العمل تماما في سن العاشرة (إرفن 1964) (سابورتا 1966) (لينبرغ 1967) (دنان 1970)، لكنا ندرك أيضا أن محدودية الوقت والإمكانات أمام الأسر المهاجرة لنقل لغتها وثقافتها لأبنائها تجعل أكثر من تسعين بالمئة من أولادنا يخسرون لغتهم العربية الفصحى عند اتباع هذه الطريقة . و من جهة أخرى ندرك استحالة تطبيق النظرية الأخرى في مجتمع عالمي مفتوح تعيشه الأقليات العربية في بلدان المهجر ، حيث لا يمكنها تعليم الأطفال اللغة العربية وحدها مع دخول الأطفال إلى المدرسة في سن الخامسة أو السادسة.
مثال : مهاجر من الباكستان يود تعليم لغة الأردو لابنه لأنها لغة أجداده ، و العربية من أجل القرآن ، والفرنسية لأنها لغة بلده كندا – كيبيك ، و الإنكليزية للنجاح في العالم أجمع . يجد هذا المهاجر في النظرية الأولى ما يطمئنه لقدرة ابنه على اتقان جميع هذه اللغات . لكن الواقع الذي يوفر اللغة الفرنسية فقط في التعليم الابتدائي الأساسي يجعل من ابنه يتقنها على حساب باقي اللغات بدرجات متفاوتة تتعلق بمدى تعرض الإبن لتلك اللغات في البيئات الداعمة التي يتردد عليها.
السؤال المهم إذا هو : ما هي حصة الوقت والإمكانات التي يجب أن نوفرها لأطفالنا لتعلم اللغة العربية الفصحى ؟
يدخل الأطفال إلى المدارس العامة في سن الخامسة و يقضون فيها سبع ساعات على الأقل يتعاملون فيها باللغة الأجنبية بدءًا من الصباح وهم في أوج نشاطهم الذهني . ثم يعودوا إلى البيت متعبين لتناول الطعام والاستراحة والنوم مستخدمين في المنزل العامية المحدودة التي لا تصمد طويلا حتى يتحول الأبناء لاستخدام اللغة الأجنبية التي يتعلمونها في المدرسة.
تحاول بعض الأسر تأمين التعليم العربي من خلال مدارس نهاية الأسبوع أو مدارس الدوام الكامل الخاصة وكلا النوعين يُدَرِّس أربع ساعات فقط في الأسبوع تتوزع على اللغة العربية وقراءة القرآن . ومن المعلوم أن ساعتين في الأسبوع لا تكفيان لتعلم اللغة العربية ، مما يجعل الطلاب في نهاية الأمر قادرين ربما على قراءة بعض الكلمات ولكن يشعرون بإحباط شديد لأنهم لا يتمكنون من استخدام الفصحى بسهولة للتعبير عن أفكارهم و أحاسيسهم أو للتعبير عن أية مواضيع علمية أو أدبية .
إن محدودية الوقت والإمكانات التي تستطيع الأسر المهاجرة محدودة الدخل توفيرها ترجح نظرية الإحلال التي تقول بأن استخدام لغة ما سيكون على حساب الأخرى . فوقت الطفل محدود و لا تستطيع الأسر أن تقدم له تعليما باللغة العربية يوازي ما يُقَدَّمُ له من اللغات الأجنبية . و مبدأ الإحلال هذا يصح على كل اللغات ، فالإنكليزية مهددة في مقاطعة كيبك الفرنسية ، و الفرنسية مهددة في مقاطعات كندا الأخرى . لقلة الوقت والموارد المخصصة للغة الضعيفة في المناهج الدراسية . و في ظل غياب التعليم المنزلي والموارد من كتب ومعلمين و أوقات مخصصة للعربية تتراجع اللغة العربية الفصحى إلى ذيل القائمة . لذا لا بد من التفكير بضمان حصص متكافئة من الوقت والإمكانات (كتب ، معلمين ، بيئة داعمة) للغات المستهدفة لتصبح نظرية تشومسكي صحيحة .
وفي ظل هذا التزاحم على الأوقات كان هناك ثلاثة حلول لتقديم بيئة يتعلم فيها الطفل العربية الفصحى بشكل طبيعي ، نذكرها فيما يلي متدرجين من الأقل إلى الأكثر كلفة.
■ الحل الأول : التضحية بالعربية العامية لتحل محلها العربية الفصحى داخل البيت . حيث يقوم الأبوان بواجبهما في تقديم ما يلزم الطفل بأنفسهما دون الحاجة إلى مساعدة خارجية ، سيما و أن حاجات الأبناء في سنين عمرهم الأولى محدودة و تحتاج لعدد محدود من المفردات ويمكن لمعظم الآباء والأمهات الاضطلاع بهذه المسؤولية إذا درسوا الثانوية في أي بلد عربي.
■ الحل الثاني : أما في حال وجود حائل نفسي أو عدم تعود الأهل على الحديث بالفصحى ، فيمكن للآباء والأمهات العرب الخضوع لدورات مُرَكَّزة لـ تأهيل الآباء (30 ساعة) تقيمها سلسبيل للتدرب على استخدام الفصحى وأساليب تنمية الطفل لغويا والتعرف على الوسائل المعينة لهذا النمو ، ليقوموا بدورهم في تعليم أولادهم بأنفسهم على أكمل وجه.
■ الحل الثالث : أما إذا لم يشأ الأهل القيام بهذه المهمة بأنفسهم أو تحسين قدراتهم باتباع دورة التأهيل ، فبإمكانهم عندئذ أن يكلوا مهمة تعليم أولادهم إلى جهة ثالثة و ذلك بتسجيل أولادهم في برامج ودورات سلسبيل الضاد المتعددة لكل الأعمار . إن عدد ساعات تدريب الطلاب يتعلق بالمناهج المستخدمة وأعمار الطلاب وطرق التدريس والوسائل المعينة ، وهذا الوقت لا يقل عن خمسة عشر ساعة وقد يمتد إلى 40 ساعة في الأسبوع . فكلما كبر عمر الطالب انخفض عدد الساعات التي يحتاجها مع المدرس ، و أمكنه متابعة الدراسة لوحده بحل الوظائف أو مشاهدة المواد العربية.
إن ممارسة الطفل للفصحى لُغَةً وحيدة على مدى السنوات الأولى من 0 إلى 5 سنوات كاف لجعل العربية الفصحى لغته الأم الأولى التي يتواصل بها بكل سهولة مع الناس والكتب والإعلام. حتى إذا دخل المدرسة كان صف الاستقبال كفيلا بتعليمه اللغة الأجنبية للبلد الذي يعيشون فيه . كما أن نظرية تشومسكي وتوزيع الأوقات الذي نقترحه في سلسبيل تجعل التحكم بيد الوالدين لتحديد عدد اللغات المرغوبة لطفلهما أن يتعلمها ودرجة إتقان كل منها ، من خلال توفير البيئة المناسبة للتعلم والحصص الزمنية لكل من اللغات المستهدفة.
إن اللغة العامية هي لغة شفهية غير مكتوبة وهي أضعف من أي لغة أخرى مكتوبة ذات قواعد (كالإنكليزية والفرنسية). كما أن اللغة المستخدمة في المنزل لغة بسيطة لا تعدو عن كونها أسماء لأدوات المنزل من صحون وأواني وأدوات، لذا يجب أن ننتبه لضرورة تزويد الطفل بلغة راقية ذات قواعد و مفردات غزيرة وقدرة على التوليد والاشتقاق كاللغة العربية الفصحى، قادرة على منافسة اللغات الأخرى و قادرة على التعبير عن أدق المشاعر والحاجات المعيشية القديمة منها والمعاصرة وعن العلوم المجردة والتطبيقية والفنون . وقد أثبتت التجربة أن الأولاد يميلون لاستخدام اللغات الأجنبية في التعبير عن المواضيع المعقدة و لا يستخدمون العامية العربية في الحوارات حتى في ما بين العرب أنفسهم لعجز العامية. لذا فإن تزويد الطفل بالعربية العامية هو تزويده بلغة هزيلة مفلسة أمام اللغات الأجنبية الأخرى . فالحل إذا هو تزويد الطفل بلغة قوية مقابل اللغات الأجنبية التي يتعلمها في مدارس المهجر .
لو لم يكن القرآن منزلا باللغة العربية و كل تراثنا الفقهي والديني على مدى أربعة عشر قرنا مكتوبا بهذه اللغة لكان لنا تساهل في الحفاظ على لغة أجدادنا. ولكن كون العربية هي المدخل لفهم القرآن والدين أجمع وبالتالي فهم الحياة (فالإسلام ليس طقوس تؤدى في المسجد كل أسبوع مرة)، فتعلمها والحفاظ عليها أصبح واجبا. ورغبتنا في تعليم أولادنا هو شعور طبيعي موجود لدى كل آباء الجالية ولا يحركه أي دوافع إيديولوجية قومية.
وبحمد الله فقد استطعنا بالتفكير العلمي و تراكم الخبرة لدينا ، تدريس العربية لغير الناطقين بها على مدى أعوام كثيرة بدءًا من 2001 حتى اليوم ، و وضع الخطوات العملية المؤدية للحصول على جيل لغته الأم الأولى العربية الفصحى بالرغم من أن كل الأطفال الذين اتبعوا برنامج فصحاء ولدوا في بلدان المهجر . وليس أدل على نجاح فكرتنا إلا قدرة أولاد مجموعة فصحاء على التعبير عن أنفسهم بالفصحى بدون أي عامية و الحمد و المنة لله تعالى على كرمه و توفيقه و نرجو منه أن يوفقنا لتكون العربية الفصحى إحدى اللغات الأم التي يتقنها طلابنا إلى جانب اللغات الأجنبية الأخرى التي يريد أولياؤهم أن يتعلموها أيضا.